سورة الأنبياء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)}.
التفسير:
مناسبة هذه السورة لما قبلها: ختمت سورة طه بالتنديد بالمشركين من أهل مكة، وبمشاقّتهم لرسول اللّه، وتأبّيهم على الهدى الذي يدعوهم إليه، ثم إنهم وقد بعث اللّه فيهم رسولا بلّغهم رسالة ربّه، فلا حجة لهم على اللّه، إذا أخذهم بعذابه، ولا سبيل لهم إلى أن يقولوا: {رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى}.
ثم تختم السورة بهذا النذير المطلّ عليهم، وقد تركوا بمنقطع الطريق، بعيدين عن أن يضعوا أقدامهم على طريق الهدى:
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى}.
وفى مفتتح هذه السورة- سورة الأنبياء- تطلّ على المشركين نذر هذا اليوم، وهم على موعد معه، وإن كانوا في غفلة وذهول عنه.. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}.
قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
الناس هنا، هم هؤلاء المشركون، من أهل مكة، ثم يدخل معهم كلّ الناس، الذين غفلوا عن ذكر اللّه، وعن العمل ليوم الجزاء.
وفى النظم القرآنى {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ} وفى الخروج به عن مألوف النظم، وهو: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ} في هذا توكيد لحسابهم، وشدّهم به شدّا وثيقا لا يفلتون منه.. وشتان بين النظمين: اقترب للناس حسابهم.
واقترب حساب الناس..!
{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} أي وهم في غفلة مطبقة عامة.. غفلة عن كل ما هو حق، وخير، كما يدل على ذلك تنكير الغفلة. وليس هذا فحسب، بل إنهم مع غفلتهم هذه العامة الشاملة، {مُعْرِضُونَ} عن كل داع يدعوهم إلى أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن ينتبهوا من غفلتهم.
والغفلة قد تكون لأمر عارض، بحيث إذا نبّه الإنسان تنبه، وإذا دعى أجاب.. ولكن غفلة هؤلاء القوم، غفلة مستولية عليهم، آخذة بكل حواسّهم ومدركاتهم: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} حيث أنهم مع هذه الغفلة المستولية عليهم- بعيدون عن دعوات التنبيه، لا يلقونها إلا من وراء ظهورهم.. فهم عنها معرضون.
{ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}.
هكذا شأن هؤلاء الغافلين.. تطرق أسماعهم دعوات متتابعة، مجدّدة، تجيئهم من كل جانب، وتطلع عليهم من كل أفق.. ومع هذا فهم على ما هم عليه، من غفلة، ولهو، وعبث.
والذّكر المحدث، هو ما يتنزل من آيات اللّه، حالا بعد حال، ويتجدّد زمنا بعد زمن.. وهؤلاء المشركون الغافلون على حال واحدة، مع كل ما ينزل من آيات اللّه يسمعونها بآذان لا تصغى إلى حق، وبقلوب لا تتفتح لقبول خير.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
النجوى: التناجي فيما بينهم.
وإسرار النجوى: مبالغتهم في إخفاء ما تناجوا به من منكر القول، حتى يحكموا كيدهم، ويصلوا إلى رأى يجتمعون عليه، ثم يطلعون على الناس به.. إنهم يأتمرون فيما بينهم، ليتفقوا على الكيد الذي يكيدون به لرسول اللّه، ولآيات اللّه.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هو بدل من الضمير في {أَسَرُّوا}.
أي أن هؤلاء الذين أسرّوا النجوى، هم ظالمون، قد ظلموا أنفسهم بعزلها عن موارد الهدى، وقطعها عن مناهل الخير.
وقوله تعالى: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} هو بيان لما تناجى به القوم، وأتمروا فيما بينهم على اصطياده، من واردات أوهامهم، وضلالاتهم.. {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؟ وإذا كان بشرا مثلنا فكيف يكون له هذا المكان الذي يطلّ عليكم منه، من هذا العالم العلوىّ؟
{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}؟ وإذا فكيف نقبل على أنفسنا أن نجىء إلى هذا الخداع ونحن نراه رأى العين؟
وهل يليق بعاقل أن يرى من يدعوه إلى ختله، ولا يحتيال عليه، ثم يأتيه طائعا؟ هكذا يريدون هذا اللّغو، ويسمرون به! قوله تعالى: {قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
قرىء: {قل ربى يعلم القول في السماء والأرض}.
وعلى كلتا القراءتين، فإن الآية ردّ على ما تناجى به المشركون وأسرّوه.
حتى إذا أحكموا نسجه، أعلنوه في هذا القول المنكر: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
وأن اللّه سبحانه يعلم ما أسروا وما أعلنوا، فهو سبحانه يعلم كل ما يقال في السماء والأرض، وهو {السَّمِيعُ} الذي يسمع نجوى القلوب، {الْعَلِيمُ} الذي يعلم ما تكنّ الضمائر.. {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} [13: الملك].
قوله تعالى: {بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}.
هو فضح لما تناجى به القوم، وكان مما جرى به الحديث بينهم.. فقالوا فيما قالوه عن القرآن الكريم: هو {أَضْغاثُ أَحْلامٍ} أي أخلاط أحلام، وهلوسة نائم، معتلّ المزاج، مخبول العقل.. وإذ لم يرتض بعضهم هذا القول ردّوه، وقالوا: {بَلْ هُوَ شاعِرٌ} أي من واردات الشعر، ومن نسج أخيلته.
وإذ لم يرض بعضهم هذا القول أو ذاك قالوا: {فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} أي يدع محاجّته في هذا الكلام الذي يلقيه علينا، ويقول عنه إنه معجزته التي يقدّمها بين يدى رسالته، وليأتنا بمعجزة غير كلامية، فإن مجال الكلام متّسع لكل قائل.. فإن كان رسولا من عند اللّه، كما يدّعى، فلم لم يأت بمعجزة نراها، كناقة صالح، وعصا موسى، ويد عيسى؟ عندئذ يمكن أن يكون له وجه يلقانا به على طريق دعوته، ويكون لنا يظر فيما يدّعيه..!
فانظر إلى كلمات اللّه، وقد أمسكت بالقوم وهم على مسرح الجريمة، ثم أخذت ما جرى على لسان كل ذى قول قاله في هذا المجلس الآثم.
{قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}.
لقد ذهب كل فريق منهم بقول من هذه الأقوال..!
وقد نسبت كل مقولة إليهم جميعا.. إذ كانوا كلهم شركاء فيما قيل.
فالمتكلم والسامع جميعا، شركاء فيه.
قوله تعالى: {ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها.. أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}.
هو ردّ على ما اقترحه المشركون من أن يأتيهم النبىّ بآية كآيات المرسلين قبله.
فهل آمن أهل القرى الذين جاءتهم تلك المعجزات؟ لقد كفروا بتلك الآيات، فأهلكهم اللّه.. وهل شأن هؤلاء المشركين غير شأن من سبقهم؟
إنهم لو جاءتهم آية كتلك الآيات لن يؤمنوا، ولن ينجوا من هذا المصير الذي صار إليه المكذبون قبلهم.. أفليس من الضلال إذن أن يستعجلوا ما فيه هلاكهم؟.
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
إنهم ينكرون أن يكون رسول اللّه بشرا مثلهم.. فعلى أيّة صورة يكون الرسول المبعوث من اللّه إليهم؟
ولم يكون رسولهم غير بشر، ورسل اللّه كلهم كانوا من البشر، ومن بين أقوامهم؟ إن لم يعلموا هذا فليسألوا أهل العلم، الذين لا تخفى عليهم هذه الحقيقة السافرة.
وقيل إن {أَهْلَ الذِّكْرِ} هنا، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.
والأولى أن يكون {أَهْلَ الذِّكْرِ} هم كلّ من عنده علم بهذا، سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم.
قوله تعالى: {وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ}.
أي أن هؤلاء الرسل، مع أنهم بشر، فإن اختيارهم للرسالة، لم يغيّر شيئا من بشريّتهم.
فهم مثل سائر البشر، تحكمهم ضرورات البشرية.. يأكلون، ويشربون وينامون، ويفرحون، ويحزنون. ثم يموتون.
والجسد: هو المادة المتجسّدة. والرسل مادة متجسدة، وليسوا من عالم الملائكة النورانى الشفاف.
قوله تعالى: {ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}.
ذلك ما لرسل اللّه عند اللّه.. إنهم على وعد اللّه لهم بالنصر، هم ومن اتبعهم من المؤمنين وقد صدقهم اللّه وعده، فأنجاهم وأنجى من آمن باللّه من أقوامهم، ممن شاء اللّه لهم الهدى.. فمن شاء اللّه لهم الهدى اهتدوا، فلم يصبهم شيء مما يحلّ بالمكذبين الضالين من أقوامهم، من هلاك وعذاب.


{لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
فى هذه الآية تنويه بالأمة العربية، ورفع لقدرها، باختيارها من بين الأمم لتكون الوجه الذي تلتقى به رسالة الإسلام، والراية التي يجتمع عليها الداخلون في دين اللّه، وليكون لسانها هو اللسان الذي يحمل كلمات اللّه، ويكتب له الخلود بخلودها.
وفى قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً} إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزله اللّه على رسوله الكريم هو منزل كذلك على قومه العرب.
فالرسول منهم، والكتاب المنزل عليه هو كتابهم، ومنزل إليهم.. وإذ كان هذا هو الحال، فإن من الخسران لهم أن يتخلّوا عن هذا الخير الذي ساقه اللّه إليهم، واختصّهم به، وإنهم إذا لم يبادروا ويأخذوا حظهم من هذا الخير، أو شك أن يفلت من أيديهم، ويعدل عنهم إلى غيرهم، كما يقول سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ.. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} [38: محمد] وفى تنكير الكتاب، تعظيم له، ورفع لقدره، وأنه أعرف من أن يعرّف بأداة تعريف.. فهو بهذا التنكير علم لا يشاركه غيره في هذا الاسم.
وفى قوله تعالى: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} تحريض العرب على أن ينشدوا الهدى من هذا الكتاب، ويستظلوا بظله، ففى هذا عزّهم، ومجدهم، وخلود ذكرهم في العالمين.
وفى هذا أيضا إشارة إلى ما يكشف عنه المستقبل من موقف قريش، والعرب، من الدعوى الإسلامية، وأنهم جميعا سيدخلون في دين اللّه، وسيبقى ذكر العرب خالدا ما ذكر الإسلام الخالد.
فالعرب- كما في المأثور- هم: {مادّة الإسلام}.
وبجهادهم في سبيل اللّه امتدّ ظلّ الإسلام، واتسعت رقعته، ورفرفت أعلامه في كل أفق من آفاق الدنيا.
وفى قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} نخسة رقيقة، تدعو هؤلاء القوم، وتدفع بهم دفعا إلى أخذ حظهم من الكتاب المنزل إليهم.. إنها غمزة حبّ، وإغراء، ودفعة من يد كريمة رحيمة ودود!! قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ}.
هو تعريض بأهل القرية {مكة}، وتهديد لهم بأن يسلكوا في عداد القرى الظالمة التي قصمها اللّه، أي أهلكها، وقطع دابرها.. ثم أقام مكانهم {قَوْماً آخَرِينَ}.
والقصم: القطع الحاسم، وهو أشد من القضم.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ}.
البأس: العذاب، والبلاء.
أي فلما أراد اللّه أن يأخذ الظالمين بظلمهم، ساق إليهم بأسه وعذابه.
فلما استشعروا وقوع العذاب بهم، بما طلع عليهم من مقدماته ونذره، ذعروا، وأخذوا يركضون، أي يجرون مسرعين في فزع واضطراب، فرارا من تلك القرية، وخوفا من أن ينهار عليهم بنيانها، أو تخسف بهم أرضها.
قوله تعالى: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ}.
هذا هو صوت الحال ينادبهم: إلى أين؟ قفوا حيث أنتم، ولا تركضوا كركض الحمر المستنفرة.. إنكم لن تفلتوا من هذا البلاء النازل بكم.
ولمن تتركون دياركم وما حشدتم فيها من متاع، وما جلبتم إليها من متع؟.
وكيف تتركون هذا الذي أنتم فيه من ترف ونعيم؟ ارجعوا.. أفتذهبون وتتركون هذا الذي أذهبتم حياتكم، واستهلكتم أعماركم في إعداده وجمعه؟
ارجعوا، ولو كان في ذلك هلاككم.. إن السفينة لتغرق ويغرق معها كل شيء لكم.. فما حياتكم بعد هذا؟
وفى قوله تعالى: {وَمَساكِنِكُمْ} إشارة إلى ما للوطن، والسّكن، من مكان مكين في قلب الإنسان.. وأنه شيء أحبّ وآثر من كل ما يحرص الإنسان عليه، وأن نعيم الإنسان لا يجتمع إلا فيه، ولا يتمّ إلا به.. وإن الغريب الذي لا وطن له ولا سكن، هو إنسان ضائع شقىّ، وإن طعم أطيب المطاعم، ولبس أفخر الملابس، ونزل أحسن المنازل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [66: النساء].
فجاء هنا الخروج من الديار، معادلا لقتل النفس! وفى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} استهزاء بهم، وسخرية من مشاعرهم التي يداعبها الأمل بالنجاة في هذا الركض الذي يركضونه.
فهم مسئولون لا محالة عما كانوا فيه من ضلال، واستغراق في الترف الذي أذهلهم عن النظر في أنفسهم، وطلب النجاة قبل وقوع البلاء بهم.. وقد جاء الإخبار بسؤالهم في صورة الرجاء، الذي يمكن أن يقع أو لا يقع، وذلك لتتحرك في صدورهم مشاعر الأمل في النجاة، ثم إذا هم تحت ضربات البلاء، وقد أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. فيالخيبة الأمل! لقد برقت بوارقه، ثم انطفأت، فإذا هم في ظلمات يعمهون.
قوله تعالى: {قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ}.
وهكذا أصبحوا وجها لوجه مع عذاب اللّه النازل بهم، لا يملكون معه إلا التّنادى بالويل، وإلا أن يندبوا حظهم المنكود، ويرجعوا على أنفسهم باللائمة والندم، ولات ساعة مندم! وهكذا تظل تتعالى صيحاتهم، ويتعاوى صراخهم، إلى أن تخمد أنفاسهم، ويصبحوا جثثا هامدة، كحصاد هشيم، تذروه الرياح.
قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى ما خلق شيئا عبثا ولهوا.. فالسماء والأرض وما بينهما من كائنات وعوالم، إنما خلقت لحكمة مرادة للّه سبحانه وتعالى، ولقصد حكيم قصده من خلقها.
وكذلك الناس، لم يخلقوا عبثا، وإنما خلقوا ليعمروا الأرض، ويعبدوا اللّه فيها، ثم يردّوا إلى اللّه، ليحاسبوا على ما عملوا، وليلقى المحسن منهم جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إساءته.. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ} [115: المؤمنون].
قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ}.
هو توكيد، لما تضمنته الآية السّابقة، من أن خلق المخلوقات، علوها وسفلها، ناطقها، وصامتها، لم يكن للهو والعبث، وإنما كان خلقا قائما على ميزان الحكمة والتقدير.. وأنه سبحانه لو أراد أن يتخذ لهوا لا تخذه من لدنه أي من ذاته، أو لأقام له في الملأ الأعلى مسرحا للهو، ولم يقمه على هذه الأرض.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
ويجوز أن تكون {أَنْ} هنا نافية بمعنى {ما} أي ما كنا فاعلين ذلك.. تعالت عن ذلك حكمتنا.
قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ.. وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.
القذف: إلقاء الشيء، ورميه بقوة وشدة.
والدمغ: وسم الشيء بسمة تغيّر معالمه.. والزاهق: الهالك، والضائع.
والمعنى: أن اللّه سبحانه وتعالى يضرب الباطل بالحق، ويدمغه به، فإذا هو زاهق، أي ذاهب ومنهزم.
وهكذا آيات اللّه وما تحمل من حق، إنها تلتقى بما يختلقه المبطلون من ضلالات وأباطيل، فتدمغها، وتزهقها، وتخنق أنفاسها، وإذا تلك المفتريات والأباطيل، دخان وهباء، لا يمسك أصحابها منها بشىء.. والمثل المحسوس في هذا، عصا موسى، وعصىّ السحرة.. إن العصا، حق من الحق،

وعصىّ السحرة باطل من الأباطيل.. فلما التقت العصا بالعصىّ ألقت بها في غياهب الظلمات.. فلم يجد أصحابها لها ظلا.. {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [117 118- الأعراف]- وفى قوله تعالى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} تهديد للمشركين، ووعيد لهم بالويل والهلاك، الذي يأتيهم من هذه الأباطيل التي يعيشون معها، بما يصفون به اللّه سبحانه وتعالى من صفات لا تليق بجلاله وعظمته كنسبتهم الملائكة إلى اللّه، وقولهم إنهم بنات اللّه!.


{وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ}.
لا يستحسرون: أي لا يملّون، ولا يكلّون.
لا يفترون: أي لا يتراخون، ولا ينقطعون عن العبادة، لحطة، أو فترة.
والآية والآيات التي بعدها، تكشف عن بعض سلطان اللّه، وتحدث عن بعض ما له من قدرة قادرة على كل شىء، ممسكة بكل شىء.
فهو- سبحانه- المالك لمن في السموات والأرض، من عوالم.. من الذرة، وما دون الذرة، إلى الكواكب في مساراتها، والنجوم في أفلاكها.. إلى الملائكة الذين هم عنده، حافّين بالعرش.. وهو سبحانه المتصرف في هذه الموجودات، الموجه لها، المقدّر لوضعها الذي تأخذه في هذا الوجود.
وإذا كان هذا سلطان اللّه، وتلك قدرته الآخذة بناصية كل شىء، فإنه من غير المعقول أن يكون شيء من خلقه ذا سلطان معه، أو خارجا عن سلطانه.
والملائكة، الذين هم عند اللّه بهذا المكان الرفيع، لم تخرج بهم منزلتهم هذه عن أن يكونوا عبادا من عباد اللّه يدينون له بالولاء ويتقربون إليه بالعبادة:
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ}.
إنهم في عبادة دائمة متطلة، وذكر للّه لا يفترون عنه! والسؤال هنا، هو: إذا كان الملائكة على هذا الصفاء النورانى الذي خلقوا منه، وعلى تلك العبادة الدائبة والطاعة الدائمة، فلم هذا الخوف؟ ولم تلك الخشيه؟ كما يقول سبحانه: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [13: الرعد] والجواب على هذا، هو أن الملائكة لقربهم من اللّه سبحانه وتعالى، ولكمال معرفتهم بماله سبحانه وتعالى من جلال وكمال- هم أكثر عباد اللّه ولاء للّه، وانقيادا له، وفناء فيه.. فمن كان باللّه أعرف كان منه أخوف، ومن كان إلى اللّه أقرب كان لجلاله وسلطانه أرهب.! يقول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ}.
فالعلماء باللّه، العارفون به، هم أكثر الناس خشية له، وولاء لذاته.. والملائكة يعلمون أكثر مما يعلم العالمون من جلال اللّه وسلطانه، وعظمته.
وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} هو تسفيه لعقول هؤلاء المشركين، الذين يعبدون مما على الأرض، من ناطق أو صامت، مثل أولئك الذين اتخذوا من البشر آلهة، أو من الأحجار أصناما ينحتونها ويعبدونها.. فهؤلاء أحمق عقولا، وأغلظ جهلا من أولئك الذين عبدوا الملائكة، وإن كان هؤلاء وأولئك جميعا في ضلال مبين.
فلا الملائكة المقربون، ولا الجن، ولا البشر، ولا الأحجار، ولا أي شيء مما خلق اللّه، مما يصح في عقل عاقل أن يجعل له إلى اللّه نسبا، فضلا عن أن يجعله إلها مع اللّه، يشاركه التصريف والتدبير.
وفى قوله تعالى: {مِنَ الْأَرْضِ} إشارة إلى مدى الانحطاط العقلي، الذي وصل إليه أولئك الذين يعبدون ما على هذه الأرض من مخلوقات.. فهى من معدن هذا التراب الذي تدوسه الأقدام، فكيف يكون هذا التراب المشكّل في أي صورة من الصور، إلها يعبد من دون اللّه، ويرجى منه ما يرجو المؤمنون باللّه، من اللّه رب العالمين؟.
وقوله تعالى: {هُمْ يُنْشِرُونَ}.
يمكن أن يكون استفهاما.. تقديره أهم ينشرون؟ أي أهؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من الأرض ينشرون الأموات ويبعثونهم من قبورهم، كما يفعل اللّه؟ والاستفهام هنا إنكارى.
ويمكن أن يكون جملة خبرية، هى صفة للآلهة، وتكون الآية كلها مبنية على الاستفهام الإنكارى، ويدخل فيها إنكار الجملة الخبرية، كذلك.
قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
هذه قضية، هى تعقيب على ما وجه به المشركون الذين يتخذون من عباد اللّه، في السماء أو في الأرض: آلهة، فإن ذلك سفه وجهل، وسوء تقدير لما ينبغى أن يكون للإله المعبود، من صفات الكمال والجلال المطلقين.
وإذا كان الإله الذي يستحق العبادة موصوفا بصفات الكمال المطلق، فإن هذه الصفات- في إطلاقها- لا تكون إلا لإله واحد، لا يشاركه أحد فيها، إذ لو شاركه غيره فيها، أو كان له مثلها، لما كان له الكمال المطلق، ولما كان له التفرد بالألوهية.. إذ الكمال المطلق صفة واحدة، ولا يتصف بها إلا موصوف واحد، هو اللّه سبحانه.
ومن جهة أخرى.. فإن هذا الوجود، في علوه وسفله، وفى سمائه وأرضه- لو قام عليه أكثر من ذى سلطان واحد مطلق، لما استقام أمره، ولما استقرّ نظامه، ولكان لكل ذى سلطان أن يتصرف فيما له سلطان عليه، ولذهب كل منهم مذهبا، فمضى ذا مشرّقا، ومضى ذاك مغرّبا.. وأخذ هذا يمينا، وأخذ ذاك يسارا.. فيتصادم هذا الوجود، وتتضارب الوجودات، وينفرط عقدها، وتتناثر أشلاؤها.
فالإنسان مثلا، وهو العالم الأصغر، الذي يناظر العالم الأكبر.. يقوم على ملكة التفكير فيه، عقل واحد.. ويقوم على تغذيته بالدم- الذي هو ملاك حياته- قلب واحد.
وتصوّر أن يكون لإنسان عقلان.. ماذا يكون حاله؟ وكيف يكون مقامه في عالم البشر؟ إن لكل عقل مدركات، وتصورات وتقديرات.. فبأى عقل يسير؟ وبأى عقل يحكم على الأشياء ويتعامل معها؟ إنه بهذين العقلين إنسانان لا إنسان واحد.
إنه ذو شخصية مزدوجة، تتصارع فيها العواطف والنوازع، وتقتتل فيها الآمال والرغبات، ثم لا يسكن هذا الصراع، ولا ينتهى هذا القتال، حتى يتحطم هذا الكائن العجيب، الإنسان.. له رأسان، أو عقلان..!
وقل مثل هذا في القلبين، اللذين يفسد أحدهما عمل الآخر، وينقض أحدهما ما بناه صاحبه.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [4: الأحزاب].
وقل مثل هذا في الجماعات البشرية.. إن كل جماعة يجب أن يكون على رأسها رأس واحد.. وإلّا فالتنازع والتصادم، والفساد..!
وقوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
هو تنزيه للّه سبحانه عما يصفه به الواصفون، من صفات لا تخصّه بالكمال المطلق، بل تجعل له شريكا فيها، ويكون له بمقتضى ذلك سلطان مع سلطان اللّه، وعرش كعرش اللّه.. فاللّه سبحانه منزه عن أن يكون على تلك الصفة.
إنه سبحانه الإله المتفرد بالخلق والأمر.
قوله تعالى: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}.
هو أيضا تنزيه للّه سبحانه وتعالى عن أن يكون كهذه الآلهة التي يعبدها هؤلاء الضالون.. فهذه الآلهة، هى من مخلوقات اللّه، وهى خاضعة لمشيئته فيها، يصرّفها كيف يشاء، ويحاسب العاقل منها على ما كان منه.. أما هو سبحانه، فلا يسأل عما يفعل.. إذ لا يسأله إلا من هو فوقه، وهو- سبحانه- فوق كل ذى فوق.. {يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ.. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [68: القصص].
قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
{أَمِ} هنا للإضراب، بمعنى بل.
والمعنى: أنه مع هذه البديهيّات التي تقع في متناول كلّ عقل، والتي تقضى بما لا يدع مجالا للشك، بأنه لا يمكن أن يكون لهذا الوجود إلا إله واحد، يقوم عليه، ويدبّر أمره- مع هذا، فإن هؤلاء الضالين المشركين قد عموا عن هذه البديهيات، وقصرت أفهامهم عن إدراكها، وساغ لهم أن يعبدوا أكثر من إله، وأن يوزّعوا عقولهم وقلوبهم بين أرباب وأشباه أرباب، ولم يحاولوا أبدا أن يجيبوا على هذا السؤال: {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} [39: يوسف].. كما لم يحاولوا أن يقيموا دليلا يقبله العقل، ويرتضيه المنطق لعبادة هذه الآلهة المتعددة! وفى قوله تعالى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} دعوة لهؤلاء المشركين أن يرجعوا إلى عقولهم، وأن يأتوا منها بالدليل والحجة على ما يعبدون من دون اللّه.
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} [117: المؤمنون].
وقوله تعالى: {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}.
هو إشارة إلى القرآن الكريم، الذي بين يدى الرسول، وهو برهانه على الإله الذي يعبده، ويدعو الناس إلى عبادته.. وهذا القرآن كما هو حجة وبرهان للرسول الكريم، هو حجة وبرهان لهؤلاء المشركين الذين يدعوهم الرسول إلى الإيمان باللّه، كما أنه حجة وبرهان على أهل الكتاب.. {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}.
فمن مع الرسول هم هؤلاء المشركون.. والذين من قبله هم أهل الكتاب.. والقرآن الكريم حجة على هؤلاء وأولئك جميعا.
وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ.. فَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
هو اعتذار لكثير من هؤلاء المشركين، الذين عموا عن طريق الحق، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يستمعوا لداعى الحقّ، وأن يستجيبوا له.. ومن ثمّ، فإن الرسول قائم فيهم، لا يتخلى عن مكانه بينهم، ولا يمسك عن دعوتهم، وكشف معالم الطريق لهم، حتى يبصروا من عمى، ويهتدوا من ضلال.
وقد كان.. فما زال الرسول يغادى هؤلاء المشركين، ويراوحهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، على مدى ثلاث وعشرين سنة، حتى استنارت بصائرهم، وتفتحت قلوبهم، وما كادت تختم الرسالة، وتنزل آخر آية من آياتها، حتى آمن هؤلاء المشركون، ودخلوا في دين اللّه أفواجا.. وكان مختتم الرسالة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [3: المائدة].
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
تلك هى ملاك دعوة الرسل الذين أرسلهم اللّه إلى عباده، وهم بشر مثل هؤلاء البشر.. ودعوتهم جميعا هى أنه لا إله إلا اللّه، وأنه وحده المستحق لأن يفرد بالألوهية والعبادة.. فكانت دعوة كل رسول إلى قومه مفتتحة بهذا النداء: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.. سُبْحانَهُ.. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.
هو إشارة إلى أهل الكتاب، الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى في قوله: {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} فأهل الكتاب هؤلاء، من اليهود والنصارى، قد جاءهم رسولان، كريمان، بشران، من عباد اللّه هما: موسى، وعيسى، عليهما السلام، فدعواهم إلى الإيمان باللّه وحده، ولكنهم قلبوا وجه هذه الدعوة، فجعل النصارى المسيح ابنا اللّه، وجعل اليهود عزيرا ابن اللّه. كما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ} أي أن المسيح وعزيرا والأحبار والرهبان، هم من عباد اللّه، أكرم بعضهم واصطفاه لرسالته، كما أكرم واصطفى كثيرا من عباده ورسله بالنبوّة والرسالة، وكما أكرم كثيرا منهم بالإيمان.
وقوله تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} هو صفة لهؤلاء العباد المكرمين، الذين اتخذهم الضالون آلهة من دون اللّه، فهؤلاء الرسل، هم على طاعة مطلقة للّه.. لا يسبقونه بالقول، فلا يقولون إلا ما يقال لهم من قبل الحق، ولا يعملون عملا إلا ما يأذن اللّه لهم به.. فكيف يكون من هذا شأنه إلها مع اللّه؟ وهل يكون إلها من لا يملك من نفسه الكلمة، ولا العمل؟
قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
أي أن هؤلاء العباد المكرمين من رسل اللّه، لا يعلمون إلّا ما علمهم اللّه، ولا يملكون إلا ما يأذن اللّه لهم به.. وهو سبحانه يعلم من أمرهم ما لا يعلمون، فيعلم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما لم ينكشف لهم من مسيرة حياتهم بعد، ويعلم {ما خَلْفَهُمْ} أي ما انكشف لهم من ماضى حياتهم قبل أن يتلبسوا به.
{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} أي ولا يملكون الشفاعة لأحد، إلا لمن ارتضى اللّه سبحانه وتعالى لهم أن يشفعوا فيه، تكريما لهم، ومضاعفة لإحسانه إليهم. {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي وهم- مع هذا الإيمان، وهذا الولاء- على خشية وإشفاق من اللّه، ومن بأس اللّه وعذابه.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ.. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} هو استبعاد لأن يكون من رسل اللّه قول كهذا القول الذي يقوله فيهم الضالون، الذين اتخذوهم آلهة.. ولو فرض- وهو فرض محال- أن يقول أحد منهم إنى إله من دون اللّه، فلا يعصمه قربه من اللّه، وإكرامه إياه، من أن يؤخذ بما يؤخذ به أي عبد من عباد اللّه، يقول هذا القول.. فهو ظالم من الظالمين، ولا مصير له غير مصيرهم.
فإذا كان هذا هو شأن المقربين إلى اللّه، فكيف يكون شأن غيرهم؟
إن ميزان العدل واحد للناس جميعا.. لا ترجح فيه كفة أحد على أحد إلا بالعمل الصالح.
{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ} [6: 11: القارعة].

1 | 2 | 3 | 4